الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة , بما دفع عنهم من كيد الشيطان , ورَدَّ أملَه , وخيَّب ظنه , إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنَّة , وفتح لهم به أبواب الجنة , وعرَّفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم: الأهواءُ المستكنَّة , وأن بقمعها تصبح النفس مطمئنة , ظاهرةَ الشوكة في قصْمِ خَصْمِها قوية المُنَّة.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد قائد الغُرِّ المُحجَّلين ومُمَهِّد السُّنَّة , وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
فإن حكمة الله جل وعلا اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة , وميداناً للتنافس , وكان من فضله عز وجل على عباده وكرمه أن يجزي على القليل كثيراً , ويضاعفَ الحساب , ويجعلَ لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة , فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات , وتقرَّب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات , عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات , فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات , قال الحسن رحمه الله في قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (62) سورة الفرقان , قال: " من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب , ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب " .
ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلِّها شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن المجيد , ولذا كان حريًا بالمؤمن أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم , ويتفقه في شروط ومستحبات وآداب العبادات المرتبطة بهذا الموسم الحافل لئلا يفوته الخير العظيم , ولا ينشغل بمفضول عن فاضل , ولا بفاضل عما هو أفضل منه.
أخي المسلم:
استحضر في قلبك الآن أحب الناس إليك , وقد غاب عنك أحد عشر شهراً , وهب أنك بُشِّرتَ بقدومه وعودته خلال أيام قلائل... كيف تكون فرحتك بقدومه , واستبشارك بقربه , وبشاشتك للقائه ؟
إن أول الآداب الشرعية بين يدي رمضان أن تتأهب لقدومه قبل الاستهلاك , وأن تكون النفس بقدومه مستبشرة ولإزالة الشك في رؤية الهلال منتظرة , وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم حبيب غائب من سفره , إذ أن التأهب لشهر رمضان والاستعداد لقدومه من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى القائل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) سورة الحـج.
يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان ويسبشرون , ويحمدون الله أن بلَّغهم إياه , ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات , وزيادة الحسنات , وهجر السيئات , وأولئك يبشَّرون بقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (58) سورة يونس , وذلك لأن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل , قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (124) سورة التوبة , فترى المؤمنين متلهفين مشتاقين إلى رمضان ، تحن قلوبهم إلى صوم نهاره ، ومكابدة ليله بالقيام والتهجد بين يدي مولاهم ، وتراهم يمهدون لاستقبال رمضان بصيام التطوع خاصة في شعبان .
باع قوم من السلف جارية لهم لأحد الناس ، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان – كما يصنع كثير من الناس اليوم – فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت: " لمـاذا تصنعون ذلك؟ " ، قالوا: " لاستقبال شهر رمضان " ، فقالت: " وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عند قوم السَّنَةُ عندهم كأنها كلَّها رمضان ، لا حاجة لي فيكم ، رُدُّوني إليهم " ، ورجعت إلى سيدها الأول .
سمع المؤمنون قول رسول الله : " كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبع مائة ضعف ، قال تعالى : إلا الصوم , فإنه لي وأنا أجزي به , يدع شهوته وطعامه من أجلي " [ الحديث رواه مسـلم ] ، فعلموا أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة , كما أشار إلى ذلك مفهوم قول رسول الله : " من شرب الخمر في الدنيا ، ثم لم يتب منها , حُرِمَها في الآخرة " [ متفق عليه ] , وقوله : " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " [ متفق عليه ] ، وقوله : " من ترك اللباس تواضعاً لله , وهو يقدر عليه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق , حتى يخيره من أي حلل الإيمان شـاء يلبسها " [ رواه الترمذي وحسنه , والحاكم وصححه , ووافقه الذهبي ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله بعث أبو موسى على سرية في البحر , فبينما هم كذلك ، قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة ، إذا هاتف فوقهم يهتف : (( يا أهل السفينة ! قفوا أخبركم بقضاء الله على نفسه )) فقال أبو موسى : (( أخبرنا إن كنت مخبراً )) ، قال: (( إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف ، سقاه الله يوم العطش )) [ رواه البزار ، وحسنه المنذري ] ، وفي رواية عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " إن الله قضى على نفسه أن من عطَّش نفسه لله في يوم حار ، كان حقًا على الله أن يَرْوَيه يوم القيامة " ، قال: (( فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حراً فيصومه )) [ رواه ابن أبي الدنيا ].
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي قال: " إن في الجنة باباً يقال له: الريان ، يدخل منه الصائـمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أُغٌلِق ، فلم يدخل منه أحد ، فإذا دخل آخرهم أغلق ، ومن دخل شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً " .
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله : " أتاني جبريل ، فقال: يا محمد ، من أدرك أحد والديه , فمات فدخل النار , فأبعده الله , قل: آمين ، فقلت: آمين ، قال: يا محمد , من أدرك شهر رمضان , فمات فلم يُغفر له، فأُدخل النار , فأبعده الله , قل: آمين ، فقلت: آمين , قال: ومن ذُكِرتَ عنده فلم يصل عليك , فمات ، فدخل النار ، فأبعده الله , قل: آمين , فقلت: آمين " [ رواه الطبراني في " الكبير" , وصححه الألباني ].
فهل تعجب أخي المؤمن أن جبريل ملك الوحي يقول في هذا الحديث , وفيما رواه مسلم " من أدرك شهر رمضان ولم يُغفر له باعده الله في النار " ثم يؤمِّن خليل الرحمن الصادق على دعائه ؟! , وأي عجب ورمضان فرصة نادرة ثمينة فيها الرحمة والمغفرة , ودواعيها متيسرة , والأعوان عليها كثيرون , وعوامل الفساد محدودة , ومردة الشياطين مصفَّدون , ولله عتقاء في كل ليلة , وأبواب الجنة مفتحة ، وأبواب النيران مغلقة , فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن ؟ ، ولا يهلك على الله إلا هالك , ومن لم يكن أهلاً للمغفرة في هذا الموسم ففي أي وقت يتأهل لها ، ومن خاض البحر اللجاج ولم يَطَّهَّرْ فماذا يطهره ؟! .
إذا الروْض أمسى مُجْدِباً في ربيِعِه ففي أي حينٍ يستنيرُ ويُخْصِبُ ؟
لقد بيَّن الصادق المصدوق اختلاف سعى الناس في الاستعداد لرمضان , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : " بمحلوف رسول الله ( ) ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان ، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان , وذلك لما يُعِدُّ المؤمنون فيه من القوة للعبادة ( ) وما يُعد فيه المنافقون من غَفلات الناس وعوراتهم ( ) , هوغَنْمٌ للمؤمن ( ) يغتنمه الفاجر( ) ". [ أخرجه الإمام أحمد , ونسبه ابن حجر في "التعجيل" إلى صحيح ابن خزيمة , وصححه العلامة أحمد شاكر رقم8350 ].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه من طريق آخر مرفوعاً: " أظلَّكم " أي أشرف عليكم , وقرب منكم – " شهركم هذا بمحلوف رسول الله , ما مَرَّ بالمؤمنين شهر خير لهم منه , ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه , إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يُدخِله , ويكتب إصره – أي إثمه وعقوبته – ( وشقاؤه من قبل أن يدخله ) لأنه يعلم ما كان وما يكون ( وذلك أن المؤمن يُعِدُّ فيه القوة للعبادة من النفقة , ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم , فهو غنم للمؤمن , يغتنمه المنافق ) [ رواه الإمام أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط , وابن خزيمة في صحيحه , وسكت عنه المنذري , وأورده الهيثمي , وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط , عن تميم مولى ابن رمانة و ولم أجد من ترجمه ]اهـ .
ماذا يحدث في أول ليلة من رمضان ؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله :" إذا كان أول ليلة من شهر رمضان , صُفِّدت الشياطين ومردة الجن , وغُلِّقت أبواب النار , فلم يُفتح منها باب , وفُتحت أبواب الجنة , فلم يغلق منها باب , وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل , ويا باغي الشر أقصر , ولله عتقاء من النار , وذلك كل ليلة " [ رواه الترمذي وابن ماجه , وابن خزيمة في ( صحيحه ) , والبيهقي ] .
إن خير الهدي هدي محمد , ومن هديه في هذا الموضع المبادرة إلى تذكير الناس ببركات هذا الموسم العظيم , فقد قال لأصحابه في أول ليلة من رمضان :
" أتاكم شهر رمضان , شهر مبارك , فرض الله عليكم صيامه , تفتح فيه أبواب السماء , وتغلق فيه أبواب الجحيم , وتُغَلُّ فيه مردة الشياطين , لله فيه ليلة خير من ألف شهر , من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ " [ رواه النسائي والبيهقي , وحسنه الألباني ].