فى وقت ما من تاريخ مصر القديم خلال حكم الاسرة الثامنة عشرة ذات المجد التليد اضطربت الاحوال فتكاد ان تغوص الحضارة المصرية الى اغوار من ضعة وتفسخ وانحطاط.
انقسمت البلاد على نفسها او قل تجابهت القوتان المسيطرتان على مقاليد الامور كل تترصد الاخرى بعماية من تعصب لاهم لاى منهما الا القضاء على غريمتها لا يعنيها لو انتهكت اسباب الحياة نفسها فى وادى مصر الخصيب.
فمن ناحية فرعون – الملك الإلة – وفى مواجهته تلك المؤسسة كهنوت امون اصبحوا دولة اخل الدولة ، بكل ما ينطوى عليه هذا التعبير من ابعاد دينية ودنيوية.
ويقص علينا التاريخ ضمن ما يقص كيف انهارت الثورة الدينية فريدة الجوهر والغايات رفع شعاراتها اخناتون اول من نادى فيما سجلته مستقرءات التاريخ بوحدة الذات الإلهية وكيف تمكن منه كهنوت امون فيبسطون من جديد سيطرتهم على البلاد عن طريق عدد من فراعين دانوا لهم بالولاء منهم من افتقر الى صلابة عود فيلين امام جبروتهم المريد ومنهم من كان اصلا او بالضرورة صنيعتهم فيرفعوا بهذا على عرش البلاد ثم يعينون ذاك على الاستيلاء على مقاليد الحكم فهو مثله مثل جميع من خلفوا اخناتون اداتهم فى النفاذ الى مآربهم.
تلك هى الوصمة التى الحقها التاريخ بفرعون مصر حور – إم – حب القائد الاعلى للجيوش المصرية يستولى على العرش عنوة – زعموا –يؤازره كهنوت امون فهو "تابعهم الوضيع" كما قيل يأتمر بما يشيرون عليه ان يفعل يدك اخت – اتون عاصمة دين التوحيدن لا يترك فيها حجرا على حجر ، يهدم المعابد "الآتونية" اينما تكون يدق بالمطارق الرموز الدالة على اسم الإلة المنبوذ فيستأصلها مستبدلا بها اسم امون فيبرزه مرة اخرى الى وجود غير عشرات من معابد فخمة جديدة باهظة التكاليف يرفع صروحها تمجيدا لرب الارباب عادت إليه الصدارة بعد سنوات مريرة من مهانة.
بل ادعى من ذلك وانكى انه لم يتورع حور محب فيتطاول على اسلافه من ملوك يصمهم بأنهم كانوا "مارقين" فيمحو اسماءهم من السجلات الرسمية فكأنهم ما كانوا مغتصبا لنفسه آثارهم التى تدل عليهم يفنث روح الحقد مستعرة ضد "ذاك الوغد ، سبة اخت – أتون" لا يسميه حتى محظور ان يأتى ذكره على لسان.
تلك الصورة حور – ام – حب كما رسمها المؤرخون علماء المصريات فى اوائل القرن الماضى حين وقعوا على الكشوف المرتبطة بعصره بضعة من آثار قليلة شحيحة منها ما كانت تخصه ومنها ما نسبت اليه خطا ومنها ما توزعت متناثرة الاجزاء على عديد من متاحف ثم منها ايضا ما تزال قائمة حيث كانت ولكن النقوش التى عليها دراسة من إهمال ومنها ما ضاعت او اختفت عبثت بها اياد ما حفلت قط بأن يحتمل ان لها قيمة تاريخية كما امتدت الى بعضها اخرى تنتزعها فتضمها الى مجموعات خاصة لا يعنى اصحابها الا انها آثار مصرية عريقة لا يدرون لمن تكون او ماذا تقول.
لم يبق على جلتها من دليل سوى مذكرات خطها اولاء الذين كشفوا عنها اول ما كشفوا فدونوا ما عن لهم ان يدونوا فى عهود لم تكن فيها علوم المصريات قد بلغت الشأو الذى بلغته الآن فرزئت استقراءاتهم بفوادح اخطاء
وكان حريا ان تظل تلك الصورة المجحفة عالقة بسيرة حور – ام – حب لولا نفر من علماء لاحقين نفذوا مرة بعد اخرى الى حقائق ظلت مطموسة او مستبهمة على السابقين ولكنها لم تكن بالوفرة التى تسمح لها بالترابط فتنسق جلوا للأبعاد الحقيقية لتلك الشخصية الفذة من تاريخ مصر القديم.
فويل للتاريخ لمن يتصدى له بتدوين الا ان يتزمل بأمانة بل وان يتنزه عن اهواء.
وتشاء الاقدار ان يقبل عالم سويسرى شاب تحضير رسالة دكتوراه فى المصريات فيتدارس مع استاذه اى المواضيع انسب للاختيار وكادا ان يتفقا على ان مكانة "منف" خلال حكم الاسرة التاسعة عشرة – أسرة الرعامسة – فى حاجة الى استجلاء بالتقابل مع طيبة العاصمة الفعلية منذ ان طرد الهكسوس.
موضوع ممتع مثير لما يكتفنه من اعتبارات تاريخية وتطورات معمارية وما قد يقود اليه من كشوف حفرية ولكن كان على عالمنا الشاب ان يحدد لنفسه اولا وقبل اى شئ من كان اول ملوك تلك الاسرة اهو "رع مسو " رمسيس الاول كما اجمعت جمهرة المؤرخين ام حور – ام – حب كما خيل لبضعة من قدامى.
وبدأت سلسلة المفاجأت فاذا بالصورة المرسومة لذلك الفرعون انما نسيج من اخطاء فى التقدير ناتجة فى الاغلب والاعم عن عدم اهتمام جدى بشخصيته بدت وكأن عارضة مجرد اداة حركتها قوى اخرى من خلف ستار حلقة ضمن اخرى انتقالا بتاريخ مصر من عصر الى عصر.
بدأت صورة حور محب تتجسد بملامح شخصية فذة مغايرة لكل ما كان وصم به لولاه لما تمكنت الحضارة المصرية من التماسك فلا تتردى الى اتضاع لولاه لما تهيأت للرعامسة تلك القاعدة الصلبة التى دفعت بالدولة المصرية مرة اخرى الى انطلاق.
سلسلة من مفاجآت شدت "روبيرت هارى" الى اهتمام فيتحول برسالته فى الدكتوراه الى محاولة استجلاء الغوامض التى كادت ان تطمس على شخصية حور محب فرعون مصر المفترى عليه.
وقد اعتمدت فى بحثى هذا فى جلة ما يتعرض لحياة حور محب اعتمادا رئيسيا على ما اشتملت عليه تلك الرسالة نشرت فى جنيف بسويسرا عام 1965 بعنون "حور محب والملكة موت – ندجمت " ولكنى لم اتقيد تماما بجميع ما توصل اليه الدكتور هارى من استنتاجات وصلا بين القليل والمتيسر من معلومات فلقد كانت هناك فجوات واسعة لا يتأتى للمرء الا ان يتكهن بما يحتمل ان كان.
ولذا فان هذا الذى اقدم انما محاولة قد تصيب وقد تخيب لن يقطع لها او عليها بيقين الا ان نعثر على مر السنين بمزيد من آثار دالة .. فتدحض او تؤيد.
فما الذى يدفع بى اذن الى اقدام ؟ وقد كان احرى بى ان احجم خاصة وانى لست من المتخصصين.
عذرى انى لست اول من فعل فلقد سبقنى الى ذلك نفر من كتاب لم يدعوا قط بأنهم من المتخصصين.
فاذا ببعض اعمال كتلك المسرحية – على سبيل المثال - دبجها بخيال قلم الكاتبة اجاثا كريستى اقرب الى تصوير حقيقة الدوافع الوطنية التى حركت حور محب من تلك الصورة شوهت بافتراءات التى سبق وقدمها متخصصون عميت قلوبهم عن شواهد لا تحتمل لبسا ليس لهم من هم الا تحلية ذكرى شخصيات اضحت تثير التعاطف بغير حدود : اخناتون حطمت آثاره بنوازع من حقد موتور ثم توت عنخ آمون عصفت به المنية وهو بعد فى نضرة شباب فيدس برفاته جب مغمور.
واذ تنهال الاتهامات محمومة على خلفائهما الاقربين فان جلتها لتنصب على حور محب اثيرت من حلوة الظنون فإنما هو الذى اغتصب لحسابة سنوات حكم "الملوك المارقين".
اما كان اجدى بهم ان يتريثوا فيتساءلوا اذا كان هو الذى قد فعل ؟ ام ان تلك القوائم انما سطرت بعد وفاته بعشرات من سنين؟
فاذا اقدمت اليوم فاحاول استجلاء الابعاد الحقيقية لسيرة حور – ام – حب ، فرعون مصر المفترى عليه فليس عن مجرد رغبة فى التصدى لاجحاف الحقته به زمرة من متخصصين وانما تحركنى دوافع لا تغالب اذ التفت من حولى فأقول : "ما اشبه الليلة بالبارحة"
بلغت الامبراطورية المصرية اوج سطوتها خلال حكم تحتمس الثالث اعظم فراعينها على الاطلاق الا ان ظروف الصراع على السلطة التى حالت بينه وبين تولى مقاليد الحكم طوال عصر الملكة حتشبسوت – كما سوف نفصل فى سياق الكتاب – ارتفعت بمكانة كهنوت امون الى ذروة من ثراء دنيوى وسطوة دينية كادت ان تطمس على نفوذ غيرها من مؤسسات دينية راسخة الاصول.
اصبحوا دولة داخل الدولة فيتحسسون الطريق بعد وفاة تحتمس الثالث ما اجترأوا عليه فهو قوى الشكيمة الى بسط الوصاية على خلفائه من فراعين.
وكانت ردود الفعل يغذيها كهنوت رع إله الازل اصابتهم اضرار اى اضرار من تعاظم سطوة كهنوت امون.
ردود فعل متأنية اول الامر – خلال حكم تحتمس الرابع – لا تكاد تطفو على السطح بتياراتها الدفينة فى اعماق النفوس سرعان ما تهن خلال حكم امنحتب الثالث انصرف الى الاستمتاع بمباهج الحياة فإن مصر حينذاك امبراطورية ثرية مترامية الاطراف اضحت عاصمتها فى اوج ازدهار قبلة للعالمين وكأنها بغداد الرشيد.
بذخ وترف بغير حدود لثروة البلاد والموارد التى كانت تتدفق عليها من تلك الممالك والامارات والقبائل التى كان سيطر عليها فراعين مصر المحاربون.
فاذا ما اعتلت صحة امنحتب الثالث ، من فرط انكفائه على تذوق ملذات الحياة فإنه يرفع بابنه امنحتب الرابع ملكا مناوبا تاركا له اعنه الحكم.
الا انه كانت قد استحوذت على امنحتب الرابع "اخناتون" نوازع من ايمان مطلق بوحدة الهية كونية ودّ لو ان يفرضها على العالمين فى صورة من قرص للشمس عرف منذ اجيال باسم اتون ولكنه يدفع به الآن وكأنه الصورة الرمزية لجوهر بانى مكنون واحدا احدا لا شريك له.
وتقابل دعوة اخناتون بتحفظ شديد من جانب العامة والخاصة على السواء ما رحب بها سوى كهنوت رع وجدوا فيها وسيلة للارتفاع مرة اخرى بصورة جديدة لإله الازل قضاء على النفوذ المتزايد لكهنوت أمون.
ويتفجر الصراع عنيفا بين ذلك الكهنوت المؤثل – كان قد اصبح دولة داخل الدولة - وبين الدعوى التى يدفع بها اخناتون حثيثا فتثور ثائرته ويعلنها حربا شعواء على الصور المتعددة لجمهرة الآلهة المتناثرة معابدهم بطول البلاد وعرضها وبخاصة إله الآلهة امون.
احتدم الصراع بين الطرفين كل يسعى الى فرض سيطرته غير عابئين لو ان انهدت مصر على ما فيها ثم المد بعد جزر اذ يشعر اخناتون بأن قد فشلت دعوته ينغلق على نفسه فى آخت اتون تلك العاصمة التى كان شيدها على عجل مركزا لعبادة إلهة الجديد وسرعان ما توافيه المنية فيطيح كهنوت امون فى البلاد دافعين بأعوانهم ومحاسيبهم الى مراكز الصدارة فى كل مكان.
سنوات طوال تحدرت خلالها الاحوال استنزفت ثروات مصر خلال حكم امنحتب الثالث الباذخ امكانيات مصر الذاتية طحنت طحنا خلال الصراع العنيف بين اخناتون وكهنوت امون بينما قويت شكيمة جيران مصر من ممالك صاعدة وان رسائل تل العمارنة لتصور لنا كيف تردت مكانة مصر وكأنها اضحت فريسة سهلة المنال الجميع بها متربصون.
طحنت امكانيات مصر الذاتية تتفادها اطماع نفر من اوغاد لا هم له الا الإثراء واستغلال على حساب المصالح الحيوية والقيم الانسانية لافراد هذا الشعب المكافح الصبور.
وهو ما يتنبه له حور محب فما ان تتهيأ له الفرصة – اذ يختاره الملك توت عنخ امون نائبا له على شئون البلاد – الا ويسارع فيحاول ان ينتشل مصر من الوهدة التى اليها تردت.
ولكنه مجابه ايضا بأخطار تتربص بمصر من خارج لا يسعه ان يقضى عليها فإن امكانيات مصر الذاتية فى حالة من تفسخ رهيب وانما ان يشلها مؤقتا كسبا للوقت معتمدا على مهارته الفذة فى استغلال صيت افاض به على مصر فراعينها المحاربون صيت ما تزال تتردد له اصداء وان خفتت بعض لشئ فى نفوس جيرانها عبر التخوم.
ان هى الا بضع حملات عسكرية محدودة الاهداف ولكنها كافية اذ ينجح حور محب فى استغلال نتائجها ترغيبا وترهيبا فتسكن الفورات التى كانت تتربص بمصر عبر الحدود ويفرغ حور محب لشئون البلاد الداخلية مرسيا دعائم من امن واستقرار افتقدتهما البلاد خلال العهود المتلاحقة لاسلافه الاقربيين فيعيد تنظيم الادارة ويعيد تشكيل الهيئات القضائية بطول البلاد وعرضها فلا تتوانى عن ملاحقة التجاوزات ضاربة يد من حديد على جميع من كان قد سولت لهم نفوسهم انتهاز حالة الفوضى والتسيب استغلالا لارزاق الشعب وانتزاعا لاسباب من كسب رخيص غير عابئين بما قد يلحق بمصر من تدهور فى قيمتها جميعا.
وان اختلال القيم الاخلاقية لاخطرها بلا جدال فأية جهود مضنية حتى تعود فتستقيم بل اى معاناة فيتم التحول بأجيال تشربت الخسة والضلالة الى جيل من اهل خبرة ونزاهة لا يتوخون لانفسهم اقدارا بأن يؤدوا ما يناط بهم من واجبات.
ذاك كان قدر حور - ام - حب تحديات تصدى لها فيقود مصر الى ثورة ضخمة بعيدة الاثر من تقويم واصلاح.
ولكنى اعود فأقرر بأنى وان كنت قد التزمت بما ثبت لبعض العلماء المحدثين من معلومات وانها لضئيلة فقد تذرعت بخيال فأملأ الفجوات بما أزكت ان قد كان ، اعتمادا على ما ارتسم فى ذهنى عن حور محب من طباع وخصائص ذاتية مع الاتجاهات التى نعلم ان كانت تحرك الشخصيات من حوله.
فدعوة منى الى القارئ غوصا الى اغوار من ماض سحيق عسى ان يتأنسنا قبس من بصيرة فما احوجنا اليوم الى همة كتلك التى ازاحت هموم السنوات العجاف .
دعوة منى الى القارئ فنتتبع سيرة حور محب فرعون الثورة على الفساد ارتقاء بمصر أخرى الى المكانة التى بها تليق فلا حياة لها ولا حماية لإمكانياتها الذاتية الا فى ظل من طهارة ذمة وطهارة يد .