فى عام 1954 أمر جمال عبد الناصر باعتقال اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية وقائد حركة الجيش ونفيه إلى قصر المرج إلى الأبد.
وفى عام 1971 أمر أنور السادات بالإفراج عن محمد نجيب ولكن المعتقل رفض مبارحة القصر بعد أن تآلف مع جدرانه وأرضه وحشراته.
وفى عام 1983 أعطى حسنى مبارك الأمان للرئيس "المعتقل البرىء" ليعود إلى الحياة فى حرية وليمارس نشاطه بطبيعته.
وفى عام 1984 مات محمد نجيب وخرجت جماهير الشعب كلها تشيع جنارة قائد الثورة وكان فى مقدمتها الرئيس حسنى مبارك وعدد من كبار المسئولين فى الدولة ساروا بجوار نجله يوسف محمد نجيب يقدمون له العزاء فى وفاة الزعيم.
وورى جثمانه الملفوف بالعلم المصرى مدافن الشهداء.
وبين الاربع التواريخ عاش محمد نجيب المأساة فى معتقله الاضطرارى 28 عاما و9 شهور و17 يوما لم تجرى له محاكمة علنية أو سرية ولم يوجه له اى اتهام وكانت جريمته هى اصراره على ممارسة سلطاته الدستورية كرئيس للجمهورية ومطالبته بالديمقراطية وعودة العسكريين للثكنات واعادة الحياة المدنية للحكم.
ورغم مرور السنوات لم ينس الشعب اسم محمد نجيب ولم تطمسه كتب التاريخ رغم المحاولات البائسة لشطب اسمه من سجل الاحياء لانه مرتبط بمعظم الأحداث التى وقعت اعتبارا من فجر 23 يوليو 1952 وحتى صدر قرار الإعتقال الإضطرارى..
ولازالت الكتب والمذكرات والذكريات التى تؤرخ لحركة الجيش تذكر دوره ولكن باختصار شديد أو بتجاهل متعمد ولكن التاريخ لا يغفل دور الرجل العظيم.
فهو الذى تولى إدارة الانقلاب العسكرى ضد الحكم الملكى ليلة 23 يوليو 1952 وكتب بخط يده قرار عزل الملك فاروق من العرش والتنازل عن العرش لطفله أحمد فؤاد.
ودع الملك على رصيف ميناء الإسكندرية حتى غادر البلاد مساء 26 يولية 1952 وأخيرا تولى إدارة الحكم حتى إعلان الجمهورية بعد اسقاط الملكية فى 18 يونية 1953 وهو الذى تولى رئاسة أول جمهورية فى مصر حتى تم اعتقاله فى قصر المرج يوم 24 أغسطس 1954 وبين كل تلك الاحداث والتواريخ وقعت مأساة "محمد نجيب" وما شملته من ألوان الصراع على السلطه لتبدو فى نهايتها ماساة راح ضحيتها الرجل الطيب.
ومأساة محمد نجيب لها أكثر من وجه بدأت فى حالة "السعار" المسيطر على الضباط الشبان بعد أن رأوا رؤوس الحكم الملكى تتساقط أمامهم وأبواب القصور تفتح لأقدامهم وخزائن الذهب والفضة فى متناول أيديهم فعاثوا فى مجد السلطة حتى غشيتهم اضواؤها فنشب صراع "الديكة" فيما بينهم وأعلنوا الحرب على المماليك ليبقى المسرح خاليا لأقواهم فتساقطوا فرادى امام كبيـرهم عبد الناصر لينفرد بالحكم وكان أول الساقطين من أعضاء القيادة عبد المنعم أمين ويوسف صديق ثم محمد نجيب.
وتلاهم باقى الثوار خالد محيى الدين وصلاح سالم وجمال سالم والبغدادى وكمال الدين حسين وعبد الحكيم عامر وحسن ابراهيم وحسين الشافعى ماعدا السادات أما باقى الأعوان أو ما يطلق عليهم "الأحرار" فنشب الصراع الدموى بين صفوفهم لتتلقفهم السجون والمعتقلات وتصدر فى حقهم أحكام الإعدام والسجن المؤبد بأمر عبد الناصر ومجموعة الثوار القيادات.
ومأساة محمد نجيب الثائر الذى قتله الثوار أو الأشرار هو موضوع هذا الكتاب صفحاته تحمل الوثائق التى تثبت أن مؤامرة حيكت بإتقان لإزاحة الرجل من الطريق للانفراد بالحكم دون"جلبة" أو وجع دماغ.
فى 14 نوفمبر 1954 أمر عبد الناصر بإزاحة محمد نجيب من طريق الحكم فى انقلاب صامت وتصفيته جسديا واعتقاله للأبد فى أحد القصور النائية على حدود القاهرة وأسند إلى أثنين من قادة الثورة تنفيذ الأمر كان عبد الحكيم عامر الذى قدم قائده نجيب إلى عبد الناصر كما ذكر واعتبره كنزا عظيما وحسن ابراهيم الطيار الذى كره محمد نجيب ونفذ "العضوان" المهمة بنجاح وانتقل رئيس الجمهورية من مقره الرئاسى إلى "المعتقل" قصر زينب الوكيل بالمرج دون مقاومة ليبقى بين جدرانه أكثر من 28 عاما.
وامر عبد الناصر برفع اسم محمد نجيب من المواثيق ومناهج التاريخ ووسائل الاعلام لينساه الناس وليحكم عليه بالاعدام الادبى والمعنوى ويضع التبرير لاجراءاته ضد الرجل الطيب.
اتهمه بانه ليس قائداً لحركة الجيش ولا علاقة له بتنظيم الضباط الاحرار واختياره تم قبل ساعة الصفر وفوتح فى أمر قيادة الانقلاب قبل ساعة الصفر بساعات واعتبره "ميس" يختفى وراءه الضباط الاحرار وتعليق عنقه فى المشنقة لو انكشف الانقلاب.
وبرر عبد الناصر مسلكه هذا بكون نجيب صاحب رتبة كبيرة تقنع ضباط الجيش الصغار بأهداف الحركة ونجاحها وكال عبد الناصر ومعاونوه التهم الخلقية والشخصية للرجل الطيب إبان صراع السلطة ليمهد قرار نفيه وليسىء إلى سمعته الناصعة ويلطخ اسمه ومعتقداته الوطنية بالأوحال ليكرهه الشعب.
ونجح عبد الناصر فى أهدافه للأسف وكان القائد الطيب برئيا من كل التهم التى قذفه بها عبد الناصر وهانت على الرجل الوطنى كرامته وخشى أن يكون سببا فى اندلاع الحرب الأهلية بين صفوف الجيش الذى قام بثورته فقرر الانسحاب والاستقاله فى هدوء ليعطى الفرصة الذهبية لعدوه ليفترسه وليصدر اوامره بازاحته من الطريق.
وعلى وريقات بالية فى كراسات صغيرة سجل أول رئيس للجمهورية "المعتقل" محمد نجيب ذكرياته عن الأحداث الدامية التى صاحبت حياته أكثر من 29 عاما على ضوء اللمبة الخافت فى القصر المهجور وأهداها للشعب لتكون وثيقة للتاريخ كتب العديد من الرسائل إلى جلاديه يحتج فيها على استمرار جريمتهم فى حقه ويطالب بدوره الطبيعى فى الحياة واعتبر الرسائل والبرقيات نشيد " سخط " وصرخة "حق" تلهب ظهر الطغاة وأقلقت حروف الرجل نوم الجناة فحاولا الإقتراب من الأسد الجريح لكنهم سرعان ما هربوا فرارا من الزئير .
ورغم ما فى الذكريات من حوادث مهمة فى مسيرة العمل الوطنى إلا أن بعضاً منها جاء مبتوراً يحتاج لمعرفة الجانب الآخر منها.
وأعذر صاحب الذكريات محافظته على تسلسل الأحداث وتتابعها ووقوع بعض "الهفات" فى سطورها فربما كانت لوهن الذاكرة أو لكثرة الأحداث وتشابكها أو لشعوره بعدم الأمان لو سجلها بحقيقتها الصامته وهذا ما شعرت به وأنا أتصفح السطور اللآهثة التى حملتها هذة الذكريات أو وثائق الرسائل والبرقيات التى ووجهها إلى جلادية .
وفتحت ذاكرة الرئيس محمد نجيب – الباب – للإجتهاد وأضافت العديد من أبعاد الصورة لتبدو متكاملة تروى أحداث فترة الحكم التى عايشها .
واستحق نهاية لم يعمل لها حساب .
وكانت هذه مأساة محمد نجيب.