أمضى مؤلف الكتاب قرابة اربع سنوات فى مصر قابل خلالها عدداً من قيادات ثورة 23 يوليو وشخصيات سياسية هامة، واطلع على مئات الوثائق وأرشيف الصحف المصرية وقرأ الكثير مما كتب عن مصر وعن جمال عبد الناصر .. وبرغم ذلك الكم الهائل والدراسات والكتب التى اطلع عليها إلا إنه قدم شيئاً جديداً أهتم بمتابعتة وهذا الجديد هو منهج تناول تاريخ مصر فى الفترة من (52-70) فقد قدم كيرك بيتى دراسة هامة للصراعات الايديولوجية والسياسية وتطور المجتمع المدنى فى مصر الذى ما زال يشغل الباحثين والدارسين .. يقول المؤلف: نظراً لأن الحكم فى مصر منذ 1952 لم يتخذ أيديولوجيه محددة أو سياسة معينة ، وإنما اتسمت تلك الفترة بالتحولات وصراعات وانتقالات متغيرة.
انقلاب يوليو 1952 كما يسميه المؤلف لم يكن مفاجأة سواء على المستوى المحلى أو على المستوى الدولى فالشعب المصرى فى ظل الملك فارووق فقد كل ثقة بهذا الحكم وبالأحزاب السياسية التقليدية خاصة مع أحزاب وقوى ذات توجهات أيديولوجية وفكرية فى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين والمنظمات الماركسية وبعض المنظمات السوفيتيه والوطنية مثل مصر الفتاة والحزب الاشتراكى وغيرها.
وفى داخل الجيش المؤسسة الوطنية المصرية كانت آثار هزيمة مصر فى حرب فلسطين سبباً مباشراً من السخط الذى ساد الضباط كما كانت آثار حربين عالميتين على الجيش المصرى خاصة الحرب العالمية الثانية التى دارت بعض من معاركها فى غرب مصر سبباً اخر لإدراك الجيش المصرى أن مهمته التقليدية فى الحفاظ على أمن وسلامة الوطن والشعب محل شك كبير .. وهكذا فإن أحاديث السياسة بدأت تدخل عنابر الجيش.
ويغوص المؤلف باحثاً عن الأصول الاجتماعية للضباط الأحرار وخاصة أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو متسائلاً ما الدوافع التى جعلت هؤلاء الضباط يشكلون تنظيماً وكيف أمكنهم دون قواسم أيديولوجية مشتركة القيام بالانقلاب ..
يحاول الكاتب الغوص أكثر فى أعماق الخلفيات الأيديولوجية للضباط الأحرار ويرصد تنقل عدد منهم بين التنظيمات السياسية المختلفة خاصة التنظيمات الحديثة فقد ابتعدوا جميعاً عن الأحزاب التقليدية مثل الوفد والأحرار الدستوريين وغيرهما .. ويقول المؤلف إن السبب الرئيسى وراء انضمام الضباط الأحرار إلى تلك التنظيمات مثل الإخوان المسلمين والمنظمات الشيوعية المصرية "حدتو" ويقول المؤلف : إن السبب الرئيسى وراء انضمام الضباط الأحرار إلى تلك التنظيمات هو انها كانت تملك رؤى سياسية واستراتيجية وفكرية واضحة للنضال ضد الاحتلال الإنجليزى وحكم الملك الفاسد.
ويذكر الكاتب أن النضال من أجل الاستقلال وإجلاء القوات الإنجليزية من مصر كان هدفاً مباشرا للقوى الوطنية ولكنها كانت عاجزة عن تحقيقه وكان حلم الضباط تحقيق هذا الهدف .. ولم ينس بيتى أن يقدم معلومات تفصيلية عن الاقطاع فى مصر.
ويكشف الكاتب عن موقف القوى الخارجية خاصة قوات الإحتلال والسفارة الأمريكية من الانقلاب فيذكر أن الضباط الأحرار لم يتجاهلوا حقيقة وجود 80 الف جندى بريطانى على طول قناة السويس واستعادوا عشرات المرات تجربة عرابى الفاشلة.
وقد توافرت للمخابرات البريطانية فى مصر معلومات مهمة من نشاط الضباط الأحرار ولم يكن لدى إنجلترا أى استعداد فى ذلك الوقت لفقدان دماء جديدة من أجل نظام ملكى يتهاوى وخاصة أن بريطانيا خرجت مثقلة بجراح النصر فى الحرب العالمية الثانية .. وكانت السفارة الأمريكية فى القاهرة نشيطة فى تتبع توجهات هؤلاء الضباط ،وكان الموقف الأمريكى وقتها يقوم على تشجيع عمليات التغيير سواء فى الدول الديمقراطية أو غيرها من أجل مواجهة امتداد النفوذ الشيوعى فى العالم.
ويستعرض الكاتب الظروف والأحداث التى قادت إلى انقلاب 23 يوليو ثم كيف تحول الانقلاب إلى ثورة؟، وكيف بدأت الثورة فى بناء الدولة عبر الأجهزة والمؤسات السياسية المختلفة التى أقامتها.
وتحت عنوان أمريكا لا تريد الديمقراطية "يكشف الكتاب عن الموقف الأمريكى من أزمة مارس والعدول عن التوجه الديمقراطى بعد أن تم تكليف خالد محيى الدين بتشكيل حكومة جديدة بعد إعادة محمد نجيب رئيساً مرة أخرى .. ويكشف الكتاب عن الموقف الأمريكى فى ذلك الوقت لم تكن حيز انتهاج اتجاه ديمقراطى فى مصر لأنه من شأنه فتح المجال امام التنظيمات الشيوعية لكى تنشط وتقوى وربما تستولى على السلطة .. كما يذكر واقعة أخرى وهى رفض محمد نجيب التعاون مع المخابرات الأمريكية .. بينما تم تكليف زكريا محيى الدين بالتعاون مع المخابرات الأمريكية وهو يعمل على تأسيس جهاز جديد للمخابرات فى مصر.
ويضيف الكتاب أن الأمريكان حثوا ناصرعلى التحرك ضد نجيب .. ويشير الكتاب إلى أن الضباط الأحرار نجحوا بقيادة جمال عبد الناصر خلال الفترة من 52 إلى 1954 فى إحكام سيطرتهم على الحكم والمؤسسات الرئيسية، وقد تلقوا فى هذه الفترة مساعدات من شخصيات مدنية (على ماهر – السنهورى) ولكن الضباط فى نفس الوقت رفضوا التعاون مع القوى التقليدية.
ويقول الكاتب تحت عنوان " أسرة خالد محيى الدين لم تفهمه" إن خالد أكد له أن أسرته كانت متحمسة للإصلاحات التى قام بها الضباط ولكنهم لم يفهموا لماذا كان خالد محيى الدين يصر على الانتخابات والديمقراطية القديمة !.. وكانت الولايات المتحدة متحمسه لديكتاتورية عسكرية تساعد على الاستقرار الاقتصادى وكان عبد الناصر نفسه قد أكد لمسئول أمريكى سنة 1950 قائلاً له : لا تحاولوا ايها الأمريكيون تصدير ديمقراطيتكم إلينا فإن إعطاء المصريين الحرية بسرعة سيكون مثل إلقاء أطفالكم فى الشوارع.
وفى الفصل الأخير "ثورة ناصر" يحلل المؤلف التوجهات السياسية والاقتصادية لثورة يوليو بعد أن أصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية وتم إجراء إنتخابات مجلس الأمة وبناء على عدة مؤسسات سياسية بداية بهيئة التحرير ثم الإتحاد القومى والإتحاد الاشتراكى .. وحادثة تأميم قناة السويس وحرب 1956 والدعم الذى تلقته مصر من دول العالم الثالث أثره فى زيادة طموح عبد الناصر لبناء دولة جديدة وتحقيق ثورة اجتماعية واقتصادية ذات توجهات أيديولوجية خاصة بعد الدعم الذى تلقته الثورة من الإتحاد السوفيتى .. وكان لهذه الأحداث تأثيرات مهمة على المجتمعين المدنى والسياسى فى مصر من 54 إلى 1960 .
وكان الإقتصاد المصرى مرتكزاً على الزراعة، وقد تم تدمير الملكيات الزراعية الكبيرة وأدى ذلك إلى زيادة تأييد الفلاحين والطبقة المتوسطة بينما لم يعط كبار السن الرأسماليين العاملين فى الصناعة ثقة كافية للنظام خصوصاً مع التأمينات والإصلاح الزراعى بالإضافة إلى ضعف رجال الصناعةالمصرية بشكل عام.
وهكذا فإن القطاع العام اصبح الركيزة الاقتصادية الأساسية بينما هرب الرأسماليون بأموالهم ومن بقى ظل يسيطر على صناعات هامشية