البابا الخفى
يهودى بولندى يحكم الفاتيكان بمشاركة يوحنا بولس الثانى
قداسته يدعو للتقارب والاندماج بين الكاثوليكية واليهودية
أسرار الجمعيات الدولية الداعية لمصالحة بين الأديان الثلاثة
إسرائيل تؤجل اعتراف البابا 17 شهراً مقابل اعتراف 40 دولة
الخبر مثير ..
تناقلته وكالات الأنباء بعبارات مشحونة بالدهشة والثناء ...
ومثقلة بمشاعر المفاجأة والتحول ...
قالت " فى إشارة صريحة للمصالحة بين الكاثوليكية واليهودية أعلن البابا يوحنا بولس الثانى عن اختيار الراهبة أوديت شتاين واحدة من القديسات الكاثوليكيات . وشتاين يهودية الأصل اعتنقت الكاثوليكية وهى فى التاسعة والعشرين وماتت فى معسكر أوشويتز النازى فى بولندا.
"ووصفها البابا بأنها ابنة بارة لإسرائيل ومخلصة للكنيسة". وإنه على "أمل أن تؤدى شهادتها إلى توطيد جسر التفاهم المتبادل بين اليهود والكاثوليك"..
واقع الحال ..
إن الخطوة ليست مفاجأة وليست مثيرة للدهشة بل هى استمرار للإستراتيجية البابوية التى بدأها منذ ولايته فى 16 أكتوبر 1978.
إنه بابا الوفاق التاريخى بين اليهودية والكاثوليكية. الدليل على ذلك نقدمه من كتاب صدر منذ شهر واحد فى أمريكا بعنوان " البابا الخفى The Hidden Pope " .
تحت العنوان مباشرة عبارة تفسيرية موحية تصف الكتاب بأنه " القصة غير المروية للصداقة الحياتية بين الكاثوليك واليهود . قصة البابا يوحنا بولس الثانى وجيرزى كليجور تسطرها دورسى أوبراين وتهديها للحب والاحترام المتبادلين بين الكاثوليك واليهود".
يبدأ الكتاب بشهادة للبابا أدلى بها فى 6 أبريل 1993 بمناسبة العيد الخامس عشر للانتفاضة التى وقعت فى وارسو ..
قال : دعانا أبانا إبراهيم إلى هداية العالم ومباركته . إنها رسالة ملزمة تنتظرنا نحن اليهود والكاثوليك ولكن لنبدأ أولاً بمباركة كل منا للآخر "...
بطل الأحداث جيرزى كليوجر مواطن بولندى . يهودى . من مواليد مدينة "وودوفيسك" حيث ولد البابا .كانا اصدقاء دراسة وجمعتهما علاقة عائلية متصلة وواجها معاً صنوفا من المضايقات والاهانات خلال الحكم النازى .
تبدأ القصة باليوم المشهود ...
كان جيرزى لدى طبيب الأسنان فى روما وما إن تمدد فوق الكرس وبدأ الطبيب إنتقاء أدواته : حتى أذاع التليفزيون الخبر المثير.اختيار الكاردينال "كارل ووجيتيالا ..بابا الفاتيكان ".. انتفض جيرزى من فوق الكرسى وصاح بانفعال طاغ : إنه لولك .. إنه ووجيتيالا ..
ساله الطبيب : من هو لولك ..
أجاب : بمزيد من الانفعال . إنه صديقى ..
قال الطبيب ببرود : مبروك ربما اختارك كاردينالا..
لم يلتفت جيرزى للعبارة الساخرة وطلب استخدام التليفون لاتصال بصديقه ..
أجاب الطبيب : إنه هناك .
وأردف قائلاً : مؤكد البابا مشغول جداً الآن ربما فى إمكانك الاتصال بملكة بريطانيا فى التو واللحظة لكنك لن تستطيع الوصول إلى قداسته.
ولم يهتم جيرزى بالتعليق التبسيطى تناول الهاتف وتعامل مع الارقام بإنفعال وأدلى بمعلومات إلى الطرف الآخر :ترك اسمه وعنوانه وأرقام تليفوناته .. ثم مضى..
وفى نفس الليلة تلقى الدعوة بزيارة البلاط البابوى اتصل به المونسيور ستانسلاوى ديزوتيزى سكرتير البابا فيما بعد . وأبلغه أن قداسته فى انتظاره .. بعد أسبوع . وحدد له الزمان والمكان وإجراءات الزيارة ..
ليس مهماً أن نتعرف على ما جرى فى اللقاء كما روته أوبراين . لكن المهم أن نتعرف على ما قالته الصحف اليوم التالى.
كان جيرزى مهاجرا إلى إيطاليا بعد أن سيطر الماركسيون على بلاده واستقر بها كرجل أعمال كبير وظل ووجيتيالا فى بولندا حتى رسم كاردينالا واختار كاتدرائية كاركوف ليستقر بها . وينظم المقاومة ضد النظام الماركسى..
وتسجل الكاتبة صورة للمناخ الثقافى الذى يجمع اليهود والكاثوليك يوم لقاء البابا بصديقه جيرزى كانت الفاتيكان قد أصدرت عام 1965 وثيقة براءة اليهود من دم المسيح المعروفة بعنوان " نوسترا إيتاتا " ومع ذلك استمرت القطيعة والشكوك بين الديانتين. وجاءت الوثيقة ذاتها مترددة وغير قاطعة لا تعترف أو تشير إلى دولة إسرائيل لم تذكرها بالاسم واعتبرتها خارج جغرافيا وتاريخ الفاتيكان .
حتى عندما زار البابا بولس السادس الأراضى المقدسة فى فلسطين عام 1964 لم يلفظ كلمة إسرائيل وعندما كان رئيس الدولة فى استقباله بالمطار لم يخاطبه بسيادة الرئيس بل خاطبه بلقب السيد فلان ..
وظل الموروث الثقافى فى إيطاليا غير مرحب باليهود لا يرتاح لهم ولا يبادلهم المودة كما تميزت المواقف داخل الفاتيكان بالتشدد ضد إسرائيل والليونة والتعاطف مع الفلسطينين ولم يتغير الموقف ابداً حتى بعد أن قام الرئيس السادات بزيارته التاريخيه للقدس ..
كل هذه الوقائع دفعت اليهود إلى العمل بعناد وإصرار على تغيير موقف الفاتيكان وإقناعه بالاعتراف بالدولة العبرية لم تكن المهمة سهلة لكن الفرصة لاحت بكل عناصرها التاريخية والدرامية يوم اختيار البابا الجديد ..
وترصد الكاتبة الوقائع التى إنتهت باعتراف البابا بإسرائيل فى 15 يونيو 1994.
تقول : لم تكن صدفة أن يتلقى جيرزى دعوة لتناول طعام الغداء من الأب إيرنستو كاردينال باليرمو . لم يجتمع على المائدة الاثنان فقط . بل شاركهما ناثان بن أهاورن السكرتير الأول فى سفارة إسرائيل فى روما.
وبمهارة وخبث تساءل بن أهارون : أعتقد أن البابا الجديد سوف يصدر عفوا جديدا عن اليهود . ويعيد تنشيط وثيقة البراءة نوسترا إيتاتا.
بعد لقاء باليرمو تلقى جيرزى دعوة من السفارة الإسرائيلية فى روما . وعقدت مناقشة واسعة أكثر صراحة . ما دمت أفضل أصدقاء البابا لماذا لا تمارس يهوديتك الحقيقية . وتقنع البابا بالاعتراف بالدولة العبرية .
فى هذا اللقاء استفزه بن أهاررون قائلاً : إن البابا الجديد ضد السامية فأجابه جيرزى :" مستحيل . مستحيل . لقد لعبنا الكرة معاً . وتسلقنا الجبال معاً . فكيف يكون ضد السامية ".
ورد بن أهارون : إذن متى تفاتحه فى مسألة الاعتراف بدولتنا أنا وأنت " . ولم يعلق جيرزى بشىء ...
وتجمعت الضغوط من كل الاتجاهات . وكان من بينها ضغوط روزنبرج شريك جيرزى فى البيزنيس . كان الشريك أكثر صراحة . ولم يكف أبداً عن الحديث عن ضرورة مفاتحة البابا فى الإعتراف بالدولة العبرية.
وحاول جيرزى ذات مرة أن يققرب من الموضوع لم يكن الأمر سهلا فى حضور قداسته فإرتبك وسأله : " متى تسافر إلى بولندا ". ولم يجب البابا لكنه قال " سوف اذهب إلى كل مكان يأتى منه المؤمنون لزيارة الفاتيكان ". لكن جيرزى كان متأكداً من إنه سوف يذهب إلى هناك ...
كانت المكسيك أول محطة للبابا فى رحلاته الخارجية . وحقق قداسته نجاحا مذهلا فى كل قداس أبكى المؤمنين ولعب بمشاعرهم وأغراهم بالإبحار معه فى رحلة روحانية عميقة ...
كانت الدهشة والإعجاب هى العناوين الرئيسية للصحف فى المكسيك وأمريكا وأوروبا معا وتحدث بعضهم عن كاريزما الزعيم الروحى الجديد . وعن قدراته الخارقة وقدم البعض تحليلاً دينياً لقدراته الروحية غير العادية لكن أحداً لم يقترب من السر الحقيقى .
إن البابا كان ممثلاً مسرحياً وقف على خشبة المسرح مرات ومرات وتدرب على التأثير فى المشاهدين واقتحام مشاعرهم والاقتراب من قلوبهم وعيونهم وما زالت زميلته المسرحية هلينا كارلوكيفسكى تحتفظ بواحد من البوسترات الإعلانية عن مسرحية لهما عام 1938 .
لم يكن البابا ممثلاً فقط بل كان كاتباً مسرحياً وشاعراً وحكاء سريع البديهة موهوباً فى التقليد والفكاهة ومؤثرا فى كل ما يرويه أو ما يقوله وله عمل فكرى مثير بعنوان " إختبار السلوك الجنسى للبشر ".
ويستخدمه الأمريكان الآن للدراسات التطبيقية عن السلوك الجنسى فى أمريكا....
وفى المكسيك أعلن البابا عن مواقف الكنيسة الكاثوليكية وهى المواقف التى تبناها اليمين الأمريكى الجديد فيما بعد فالكنيسة ضد الإجهاض وضد الطلاق وضد تحديد النسل وقال إن الكاثوليكية ستظل مغايرة للأرثوذكية التى تعطى الأولوية للاجتهاد على النص الدينى وتسعى لإيجاد التشريع الملائم للبشر على حساب التشريع المقدس ...
وبقدر التشدد فى هذه المسائل قدم البابا تنازلا خطيرا فى أصول العقيدة قال فى 4 مارس 1979 : إن الكاثوليكية لا تمتلك الحقيقة الدينية كلها وربما تنتعش الروح الإنسانية فى العقائد الأخرى وليس من حقنا أن ندين الأديان الأخرى وكل المذاهب المسيحية لها الحق فى المسيح ويبقى على كل كنيسة أن تعلن دذلك بوضوح . وشدد على حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية باعتبارهما ضروريان لحياة البشر وعلى الإنسان أن يتخلص من الإثم حتى يتقبله الله فى ملكوته الأعلى ..
كل هذا التسامح لم يكن لوجه الله أو المسيح لكنه كان الأساس الأيدوليوجى للتقارب والتلاصق بين اليهود والكاثوليك ...
وانضم ناحوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودى العالمى إلى الحملة الضاغطة للاعتراف بالدولة العبرية .. وقف فى ذكرى وفاة البابا بولس السابع يقول : إن هذا الرجل لم يفعل شيئاً لحماية اليهود من الاضطهاد والقتل خلال المرحلة النازية السوداء . سكت عن حمامات الدم والهولوكست وهو أمر أثار الارتباك بين صفوف الكاثوليك واثقل ضميرهم بالإثم إلى حد أن بعضهم أدان البابا فى حياته ووصفه بأنه مؤيد للنازية ومتعاطف مع الفاشيست ومضاد للسامية. ما فعله البابا فعلته منظمة الصليب الأحمر السويسرية هذه المنظمة لم تفتح شفتيها بشىء ولو كشفت للعالم ما يحدث فى ألمانيا والأراضى المحتلة لتغير وجه التاريخ ..
الرسالة واضحة : إذا لم تفعل شيئاً ايها البابا الجديد فالإدانة فى انتظارك ولم يكن يوحنا بولس الثانى فى حاجة إلى من يذكره بالتزامه تجاه اليهود فقد قال يوما ما : كيف أنسى وهناك صديق لى يذكرنى دائماً بهذه الالتزامات ..
ورد البابا على خطاب جولدمان قائلاً : إنه ذاهب إلى بولندا لإحياء ذكرى اليهود الذين راحوا ضحية الهولوكست كل ذلك أول إعلان رسمى لزيارته الأولى إلى موطنه الأصلى .
قبل الرحلة بأسبوع استدعى جيرزى وقال له تعالى معى سوف نزور بلدتنا وودوفيسك أريد أن استعيد ذكرياتى بصحبتك واكحل عينى بكل المشاهد فى البلدة القديمة لن انسى يا جيرك مشهداً أخلاقيا تعلمت منه الكثير كنت مارا بصحبة والدى بشارع رينك وسط المدينة وشاهدت ساعى بريد يركع على قدميه ويحاول تقبيل يد والدك .. سألت والدى " ماذا يعنى هذا ؟" واذكر أن والدى تحدث عن أمور كثيرة عن والدك وللمرة الأولى أدرك كيف يكون الرجل محبوباً ومحترماً هكذا كان والدك المحامى وليم كليجور ..
المشهد رواه البابا على مسمع من أعضاء حكومته وكان ذلك إيذانا بترسيم جيرزى "كائنا" عظيم الشأن يتمتع بمكانة خاصة لدى الجميع ..
وانتهزت الكاتبة الفرصة لتخصص صفحات طويلة للحديث عن عائلة جيرزى والجالية اليهودية فى مدينة وودوفيسك وتكشف عن أبعاد أخرى فى حياة البابا كان لجيرزى شقيقة رائعة الجمال تدعى تيسيا وكان البابا يحبها بجنون وكانت سببا فى اختياره الرهبنة ..
وتقول الكاتبة : كانت الجالية اليهودية فى المدينة تتمتع بوضعية خاصة فهى تمثل الشريحة الوسطى من الطبقة العليا وتضم الأطباء والمحامين والمثقفين وأيضا التجار كانت تتميز بالترابط والتسامح مع المسيحيين الفقراء تعلمهم وترعاهم صحيا وتدافع عن حقوقهم وهذا ما دفع ساعى البريد للركوع وتقبيل يد وليم كيجور .
فالأخير تولى الدفاع عنه مجانا فى قضية كادت أن تقوده إلى السجن .
ثم تستطرد الكاتبة فتتحدث عن الانقلاب الذى حدث فى حياة الناس بمجرد ظهورالنازية فى ألمانيا وقيام حركة مماثلة فى بولندا ثم الاحتلال الألمانى وبداية العصر الأسود والاضطهاد والمذابح والهولوكست ..
فى هذه الأثناء مات شقيق البابا وتعلم لولك أن يكون وحيدا لكن جيرزى كان البديل للشقيق الراحل ثم مات والده فلم يجد أبا بديلا غير وليم كليجور ثم ماتت أمه فاحتضنته أم جيرزى رغم كل الظروف البائسة خلال الاحتلال ..
ومن هنا تعرف البابا عل ايدولوجية التقارب بين اليهودية والكاثوليكية واستقر فى يقينه أنها رسالة سماوية .
أفترق الشابان بعد الحرب التحق لولك بالكنيسة بينما انشغل جيرزى بالبيزنس وغادر بلاده إلى إيطاليا ومرت سنوات طويلة إلى أن تلقى إتصالا هاتفيا من الفاتيكان قال المتحدث : إن الكاردينال ووجيتيالا يريد مقابلته لم يكن جيرزى يعرف شيئاً عن هذا الرجل كانت المفاجأة فى انتظاره الكاردينال ووجيتيالا هو نفسه صديق الطفولة لولك ومنذ ذلك التاريخ عادت الصداقة بعمقها القديم دون أن تؤثر فيها سنوات الفرقة الطويلة واختلاف الأقدار ..
ثم تواصلت العلاقة إلى حد اختياره ضمن الوفد المرافق للبابا فى زيارته إلى بولندا ..
كان ذلك 2 يونيو 1979 : يوم نادر فى حياة العاصمة وارسو الشمس ساطعة . مضيئة . مشرقة . تزغرد بالفرحة . هكذا تقول الكاتبة ..
النشوة طاغية . تسكن أرواح البولنديين على اتساع الوجه والقسمات والأطراف والقلوب والمشاعر الظاهرة والباطنة.
حتى قيادة الحزب الشيوعى البولندى مستهم المشاعر غير العادية بحذر وأصابتهم بالتوتر والقلق .
إنهم بالتأكيد فرحون باستقبال واحد من أبناء بولندا الذى تولى منذ عام واحد أعلى منصب فى الكنيسة الكاثوليكية وأضفى على بلادهم شهرة مدوية وشحنة عالية من الاحترام .
لكن هذا المنصب ذاته ينازعهم السلطة ويعزز من مقاومة الكنيسة البولندية ضد الشيوعية والشيوعيين .
جدران المطار شاركت الفرحة غطيت بكل الألوان والزهور أعلام بكل الدرجات اللونية باستثناء الشيوعى الأحمر .. وعبارات التحية والترحيب : " بابن بولندا ".
" قداسة البابا راعى الكنيسة" . " مقيم الصلوات " . " الأب الذى يحمل البشارة والهداية " . " روح بولندا وزهرة الأمة المتفتحة دوماً".
كانت بعض العبارات توحى بأن السماء اختارته لبولندا وشعبها وحدهما تجسد الاثنان فى كيان واحد لا أحد يعلم بالضبط ما هو ولا أحد يتنبأ بمستقبله ..
وما إن لامست الطائرة أرض المطار حتى دقت الأجراس كل أجراس بولندا من وارسو إلى سيلزيا . ومن بحر البلطيق إلى جبال تارا وترددت الأجراس عبر الحدود إلى روسيا والمانيا وتشيكوسلوفاكيا وكل البحار الشيوعية المحيطة..
وأصطف البولنديون بالآلاف على جانبى الطريق بين المطار وكاتدرائية القديس جون ينشدون الأغنية القومية القديمة : " إسعدى يا أمنا بولندا " ..Gaude Mater Polonia .
ترقرقت الدموع فى حدقتى البابا وهو رجل لا يعرف البكاء لم يبك إلا مرة واحدة عندما توفى والده منذ 35 عاماً تحت وطأة الفقر والحرمان الذى لحق به وببلاده بسبب الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازى.
ثم تدفقت الدموع بغزاره وهو يصلى من أجل البولنديين الذين ينشدون الأغنيات المقدسة .. ( لا ننسى إنه كان ممثلاً مسرحياً) ..
استمرت الزيارة اربعة أيام لكنها لم تنته أبدا ظل مقيما فى بولندا وروحه وكلماته وبركاته، أصبحت الكنيسة بعد زيارته قوة رئيسية فى توجيه الأحداث حتى سقط النظام الشيوعى عام 1988 أى قبل انهيار حائط برلين بعام كامل ..
بعد العودة إلى الفاتيكان تحول جيرزى إلى هدف لكل الشخصيات اليهودية فى إيطاليا كان الجميع يحملونه رسالة واحدة للبابا : متى تعترف بإسرائيل؟
وجاءت اللفتة الأولى بعد ثلاثة اعوام من توليه المنصب الرفيع ابلغ صديقه جيرزى إنه سوف يبعث برسال تهنئة إلى رئيس إسرائيل بمناسبة السنة اليهودية الجديدة وكأنه أراد أن يبث الخبر بلسان المتحدث اليهودى فى بلاط الحبر الأعظم..
نقل جيرزى الرسالة إلى بن أهارون .
لم يصدق مستشار السفارة الإسرائيلية هكذا قال فى عبارة ابتزازية : لو لم تكن صديقى لما صدقت الخبر فهو رجل غير متعاطف مع اليهود بالمرة ..
واستجاب الثانى للاستفزاز ودافع عن صديقه : قلت لك يا بن أهارون عشرين مرة إن رؤيتك خاطئة وسوف ترى بنفسك خطوات أخرى لا يحلم بها أحد واعاد إلى ذاكرته خطاب للبابا القاه فى برلين قبل ثلاثة شهور وجاء فيه " إن العلاقة الأخوية بين اليهود والكاثوليك فى ألمانيا تمثل إدانة أخلاقية وإنسانية ضد الجرائم التى ارتكبت فى هذا المكان دعونا نتذكر معا: كم عائلة تعرضت للاغتيال وكم اختفى من البشر دون أثر أو قرينة وكم عمل فنى وجمالى تعرض للتدمير .
إن الإهانات التى أصابت البشرية فوق الطاقة والاحتمال ووحدتنا نحن اليهود والكاثوليك سوف تمنع تكرار المأساة مستقبلا والوحدة ليست اختيارا لكنها تعليمات من السماء التى تقول لنا : إن كل الناس سواء أمام الله لا فرق بين يهودى وكاثوليكى ..
وفى هذه الفترة أعادت دور النشر طباعة كتاب الفيلسوف الفرنسى " جليوس إسحق" حول العلاقة بين الكاثوليكية واليهودية وهو الكتاب الذى استعانت به وثيقة البراءة " نوسترا إيتاتا"..
وتستمر الضغوط من أجل الإعتراف بإسرائيل خاصة بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وانسحاب إسرائيل الكامل من الأراضى المصرية .
كلاهما أصبح معياراً لخطوات السلام المستقبلية ..
وكاد القرار البابوى أن يصدر بالفعل عام 1982 لكن مذابح صبرا وشتيلا اثقلت الضمير الإنسانى وشجعت البابا على إغلاق ملف الاعتراف مؤقتاً وفتح ملف آخر بعنوان التقارب الدينى بين اليهودية والمسيحية والإسلام ..
وتحدث قداسته طويلا حول التقارب باعتباره مدخلا حقيقيا للمصالحة وتجاهل الموروث الثقافى والدينى والإنسانى ..
واستخدم البابا بذكاء حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق باعتبارهما حربا دينية بين مذهبين إسلاميين فإذا كانتا الشيعة والسنة تتقاتلان على هذا النحو فما بالك بميراث الكراهية الذى يحكم العلاقة اليهودية والإسلام وأعاد إلى الذاكرة أهمية العمل أولا على تخليص البشرية من أسباب الفرقة والصراعات الدينية والبحث عن قاعدة للتقارب .
وربما يفسر ذلك النشاط المحموم التى تقوم به جماعات مختلفة عربية وغير عربية بهدف إيجاد قاعدة للتقارب بين الأديان ..
وما إن انتهت حرب الخليج الأولى حتى نشبت حرب الخليج الثانية وكانت هذه المرة بين السنة والسنة (الدولة السنية فى العراق احتلت الكويت السنية . وتحالف لطرد الغازى السنى مجموعة من الدول السنية من بينها مصر والسعودية )..
هكذا فسرها الفاتيكان .. وأعاد إلى الذاكرة " إن الموروث الثقافى فى المنطقة العربية لم يعد يتفق مع العصر .. " إنه موروث دماء وحروب . وعلينا أن نساعدهم على التخلص منه أولا ".
وجاءت الفرصة التاريخية عندما عقد مؤتمر مدريد ونجح فى إيجاد آلية للسلام الشامل هكذا تقول الكاتبة ..
ولم يعد أمام البابا حجة واحدة فقد نجحت دعوة التقارب التى يبشر بها .
ولم يضيع يوحنا بولس الفرصة هو الآخر بل اصدر تصريحا بابوياً فى 29 يوليو 1992 يقول فيه إن الفاتيكان سوف تعترف بإسرائيل إعترافا كاملا .. وغير مشروط ..
واستجابت الدولة العبرية للتصريح بحملة دبلوماسية واسعة النطاق تمكنت من خلالها من الحصول على إعتراف 40 دولة أخرى كانت تنتظر الإشارة من البابا..
لم تهتم إسرائيل بإقامة العلاقات الدبلوماسية على الفور مع دولة الحبر الأعظم بل اهتمت بالاستحقاقات الأخرى أولا ..