.
وهكذا وسط الضجيج وتفجر السلاح فى سهول سرت الكبيرة ابصر معمر القذافى النور : القذافى رسول الصحراء.
بلد غريب ووطن غريب لهذا الطفل الذى استهل حياته وسط هدير الدبابات ودوى المدافع بلد كبير بلد الزيتون والرمال بلد الجبال الخضراء والبحر المتوسط ذى الزرقة البيضاء المتوهجة بلد الكثبان المتحركة وسلسلة جبال أركينو والعوينات الثابتة بلد المتناقضات حيث يعترى المسافر شعور بالدوار واحساس بطعم الحلم لكثرة ما فيه من تصادمات طبيعية متناقضة فى الظاهر ولكنها متعايشة فى الواقع الوديان الزرقاء مع القمم البيضاء والحمراء والنبات الغنى فى سهول برقة ومراعى سرت سهول القمح الخضراء مع الينابيع المتفجرة الجبال والمنحدرات الواحات المليئة باشجار النخيل الباسقة مع ساحات الحجارة الرملية التى تنصهر فى الأفق مع صخور البازلت البركانية ونبات الصبار الاجراف الصخرية والزهور البرية مع ألسنة لهيب النفط وتدحرج الامواج خلف الأعمدة لبدة ونقوش فزان الصخرية مع سراديب ومقابر شحات التى تنحدر حتى البحر وتطل عليه بمئات الأعين العمياء.
بلد غريب حيث يخال المرء نفسه يذوب تحت شمس طرابلس واذا به بعد ثلاث ساعات يشعر أنه سوف يتجمد فى البيضاء حيث رياح الشمال الثلجية تصفر فوق مياه بنغازى وترفع فى خليج درنة رذاذا كذلك الرذاذ الذى يعرفه المحيط الهادى ثم تتالى رياح الشلوق الخانقة – التى لا يمكن التنبؤ بها – مع ريح جنوبية شرقية وحيث يتبع الجفاف هطول امطار غزيرة تجرف كل شىء يصادفها وهى ترعب البدو اذ تتسبب فى غرق ومقتل الكثيرين منهم ومن قطعانهم ومواشيهم وهناك الغزلان الساحرة والظباء المزركشة تعيش وتتجاوز مع جميع انواع الافاعى والثعابين.
بلد غريب تعاقب عليه الغزاة على مر العصور الفراعنة والفينيقيون والاغريق والرومان والوندال والبيزنطيون والعرب والنورمانديون والاسبان وفرسان مالطه ثم الاتراك والايطاليون والانجليز والفرنسيون.
شعب غريب نواته عربية – بربرية اختلط بها الاتراك وانصهر معها زنوج تيبستى شعب من البدو والحضر يدين بالاسلام ويحس بعمق انتمائه العربى وحيث السكان لا يشبهون العرب الا بمقدار بسيط فهم صامتون ومتأملون يظهرون حذرا فى بداية الامر ثم لا يلبث أن يحل اللطف المتناهى والصادق مكان الحذر مرهفو الحس خاصة تجاه سحر الكلمة متحمسون للأفعال والوقائع.
هذا الشعب هو بالفعل أفضل تعبير عن ارضه.
قدر غريب هو قدر ليبيا التى تشهد فجر استقلالها يبزغ مع نهاية الحرب العالمية الثانية والذى تحصل عليه بالصدفة ألم يقل أن هذا الاستقلال الذى ناضلت من أجله أولاً فى مقاومة الطليان طوال فترة الاستعمار ثم بإشراك خمس كتائب مع جنود الحلفاء الم يقل هذا الاستقلال انما يرجع الفضل فيه إلى سهو ممثل هاييتى فى الامم المتحدة الذى كان لصوته فضل ترجيح الكفة لصالح ليبيا فى 21 نوفمبر 1949؟
استقلال غريب ليس باستقلال.
فإذا كانت الامم المتحدة قد اوصت قبل الأول من يناير 1952 بخلق دولة ليبية مستقلة ذات سيادة تضم طرابلس وبرقة وفزان واذا كانت قد قررت دعوة جمعية تأسيسية وتسمية مندوب للفترة الانتقالية واذا كان الاستقلال قد اعلن رسميا فى 24 ديسمبر 1951 واعلن معه الدستور الجديد للدولة الاتحادية إذا كان كل ذلك قد حدث فليس هناك فى هذا الدستور المفصل بتخطيط اوروبى ما يتفق مع الواقع المحلى ولم تكن بريطانيا وفرنسا بعيدتين عن ذلك التخطيط كما أن الولايات المتحدة لم تتأخر هى أيضاً عن تأمين مكان مميز لها فى المملكة الليبية الجديدة.
منذ عام 1951 وبواسطة سفيرها فى طرابلس سارعت بريطانيا لمناقشة تفاصيل ترتيب موطىء قدم لها فى المنطقة طويل المدى مع ملك عجوز ابدى كل استعداده لاستقبالها فى بلاده وبصفته تلميذا قديما للورانس لم يبد السيد إلكسندر كيركبرايد اى ضيق فهو تلقى تدريبه فى الاردن تحت امرة جلوب باشا ومع رؤساء من هذا النوع كيف نستغرب أن يغرق ليبيا بالعملاء السريين الذين اطلق عليهم صفة الخبراء والمدربين والمستشارين الاقتصاديين؟ لقد تسلم كل هؤلاء المراكز الرئيسية فى الادارة فسارت الامور بسرعة كبيرة حتى تم تحضير وتوقيع كل اتفاقيات المساعدة المالية الانجليزية – الليبية قبل مرور عام واحد على الوجود البريطانى وتم التخطيط بعناية لكل شىء وخاصة بناء جيش تم تطويقة بالكوادر وبسبب براعتههم فى هذا المضمار صمم الانجليز ألبسة الكتيبتين على شكل (زى الميدان) مع القبعات السوداء التى اشتهر بها مونتجمرى بحيث بدت طريفة حقا وتبع ذلك بناء جهاز من البوليس – ألحق بالسلطة المركزية – كان على رأسه لواء يدين بولائه المطلق للانجليز لأنه سبق أن كان فى خدمتهم بفلسطين خلال الانتداب وأخيرا وليس بآخر الحقت ليبيا بمنطقة الاسترلينى وإذا كانت العملة الليبية تعتمد على الجنيه الاسترلينى فإن العجز فى الموازنة الليبية كانت تسده مساعدة مالية سنوية من لندن وكان ذلك استثمارا مربحا فالبريطانيون كانوا يعلمون بوجود النفط فى الارض الليبية .
وفى ديسمبر 1953 اعطت معاهدة ثانية لبريطانيا حق الاحتفاظ ولمدة عشرين عاما بقواعد على الارض الليبية وبإبقاء فرق عسكرية مرابطة فيها وذلك مقابل مبلغ سنوى قدره ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمسين آلف جنيه استرلينى أما فرنسا التى كانت قد توغلت إلى فزان عام 1943 مع جيش الجنرال لوكليرك مؤسسة فى تلك المنطقة الصحراوية الشاسعة ادارة عسكرية نشطة فإنها تحركت بذكاء أقل تاركة الانجليز والامريكيين يسبقونها فى هذا المجال لكن ما انجزه الفرنسيون فى فزان لا يستهان به وقد تجلى ذلك فى عدة حقول منها الصحة العامة والتربية والتعليم والتدريب المهنى كما ساهمت فرنسا بمبلغ غير قليل بلغ حوالى 293 مليون فرنك فرنسى سنويا لكن ذلك كان يستند إلى اتفاقيات مؤقتة تجدد ضمنا .
وفى عام 1954 قررت ليبيا عدم تجديدها وبدأ نفوذ عبد الناصر فى الظهور وبدأ العالم العربى يتحرك فما الذى يمنع من اثبات الوطنية خاصة أنه وفى السنة نفسها تم توقيع معاهدة مربحة بشكل خاص مع الامريكيين فهؤلاء – بعد أن اتت بهم الحرب إلى كل مكان – لديهم نية تحويل المطار الذى كانت قيادة النقل الجوى قد اقامته فى عام 1945 بالقرب من طرابلس إلى قاعدة ومقابل الاحتفاظ بحق استعمال هذه القاعدة الجوية "ويلس" لمدة عشرين سنة تعهدوا بدفع مبلغ سنوى لليبيا قدره مليونا دولار وهذه الدولارات ذات النجوم مضافة إلى الجنيهات الانجليزية تشكل مبلغا يصبح من السهل معه الاستغناء عن الفرنكات الفرنسية ومن جهة أخرى فلا الانجليز ولا الامريكيون أبدوا اى اهتمام أو انزعاج من استمرار الوجود الفرنسى فى ليبيا على أن فرنسا اتخذت قرارها وانسحبت من فزان.
واذا كان الانجليز لا يختبئون فإن الامريكيين حطوا رحالهم فى طرابلس مع عائلاتهم وسياراتهم وادارتهم ومصالحهم فى نوع من العزلة الربانية عزلوا انفسهم فى قاعدة ويلس "الملاحة" ثم لم يلبثوا أن تجاوز عددهم العشرة آلاف رجل انكبوا على اعمال غامضة داخل ذلك السور المغلق الذى يشغل مساحة 21 كيلو متراً مربعا والمحصن بحائط مرتفع.
إن الايطاليين الذين كانوا قد بنوا فى ذلك المكان بعض المدارج والممرات الصغيرة فى الثلاثينيات اصيبوا بدهشة عظيمة عام 1955 و1956 امام تلك السلسلة من المطارات الامريكية المصطفة بين الخليج العربى والمحيط الاطلسى مدارج للطائرات النفاثة خزانات وقود عملاقة جهاز كامل وكبير من المواصلات الاستراتيجية ومراكز الاستماع باتجاه الشمال الشرقى هذا دون الكلام عن مستودع كامل لتموين الاسطول السادس لكن الامريكيين كما نعلم قوم كرماء فهم اضافة إلى ايجار القواعد تعهدوا بدفع اربعة ملايين وخمسمائة الف دولار فى شكل مساعدة فنية من "النقطة الرابعة".
ماذا عن الايطاليين ، أولئك المستعمرين القدماء؟
هم أيضاً حاولوا البقاء فى ليبيا بعد الاستقلال لكنهم بقوا يدفنون بخسارة كبيرة اموالهم فى مشاريع الزراعة والتربية ولم يتوصلوا الا بعد جهد كبير عام 1956 إلى توقيع اتفاقية مع الحكومة الليبية تنص على ضمان الاملاك الخاصة للايطاليين المقيمين فى ليبيا مع اعادة 35 الف هكتار من الاراضى إلى 1300 مستوطن ومقابل ذلك لم تتنازل ايطاليا عن اموالها الحكومية.
استقلال غريب كما نراه لكن فى عام 1952 انضمت ليبيا إلى جامعة الدول العربية وضمن اطار علاقات ليبيا مع الدول العربية الأخرى وضمن اطار استقلالها المشوه يجب البحث عن خلفيات ثورة الفاتح من سبتمبر 1969.
فى شكل عام، كانت العلاقة المصرية – الليبية وخاصة العلاقات بين برقة ومصر جيدة خلال القرن التاسع عشر ابان حكم الاتراك وكذلك اوائل القرن العشرين فترة الاستعمار الايطالى لكن هذه العلاقات توطدت بعد وصول الفاشية إلى الحكم واصبحت مصر بالنسبة لليبيين مأوى لجأ إليه العديد منهم ومن بينهم الامير ادريس هربا من المعتقلات الايطالية لكن هؤلاء اللاجئين سوف يعودون إلى ليبيا – على الاقل البعض منهم – عام 1940 بسبب مفاوضات الاستقلال التى كان يقوم بها الحكم الاستعمارى الا أن الكتائب الليبية الخمس التى حاربت إلى جانب رجال مونتجمرى فقد تم تجنيدها من بين الذين اختاروا البقاء فى مصر.
بعد الحرب، راودت الملك فاروق فكرة اقامة اتحاد بين البلدين لكنها بقيت مجرد فكرة عابرة ذلك أن بريطانيا كانت ترى الامور بمنظار آخر فكانت الممكلة الاتحادية التى زرعت فى ليبيا.
وبالرغم من خيبة املها اعترفت القاهرة بالعرش للسنوسى وحاولت استمالته نحو مصر وبقية دول المشرق العربى الا أن هذه الجهود ذهبت سدى بالرغم من توقيع اتفاقية اقتصادية عام 1952 تلاها اتفاق ثقافى.
وحين زار ملك ليبيا مصر فى نهاية مارس 1953 حاول اللواء محمد نجيب عبثا اقناعه بعدم توقيع المعاهدة مع بريطانيا لكن البديل الذى عرضته مصر كان دون الذى تعرضه لندن بأشواط.
عندئذ وصل عبد الناصر إلى قمة السلطة وأثار الحمية فى ليبيا كما فى كل الدول العربية وسوف يكون لأسطورته والهالة التى تحيط به تأثير بالغ على مستقبل الشعب الليبى فلم يلبث عبدالناصر أن فضح الاتفاقيات التى وقعتها ليبيا مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة والتى اصبح استقلال المملكة السنوسية رهينة لها وقد حاول المسئولون الليبيون التخفيف من اندفاعهم بسبب عدم قدرتهم على التصدى للحجج الناصرية وتركوا العلاقات تزداد سوءاً بين البلدين بالرغم من وجود العديد من المصريين فى ليبيا يحتلون المراكز الادارية الحساسة أو يمارسون اعمالا مهنية حرة.
لكن سحر عبد الناصر وسيطرته على عقول الجماهير الليبية حالا دون قبول ليبيا الانضمام إلى حلف بغداد فى العام 1955 الذى عرضته العراق.
وسوف تظهر تأييدا لتأميم شركات قنال السويس سوف تكتفى بالحصول من البريطانيين على وعد بعدم استعمال قواعدهم فى ليبيا ضد مصر.
لكن هذا الموقف الحذر ازعج مصر كما أنه لم يرق للشعب الليبى.
واصبح ابتعاد الجماهير الليبية عن حكامها يتزايد مع استمرار الاستماع إلى اذاعة القاهرة "صوت العرب" ثم ما لبث أن تحول إلى سخط حقيقى وعنيف حين ساد شعور بأن القواعد البريطانية والامريكية فى ليبيا قد ساهمت – كما اعلنت القاهرة – فى هزيمة الدول العربية خلال حرب 67.
وبغية تطويق النفوذ الناصرى المتعاظم فى ليبيا ضاعف النظام السنوسى جهوده فى الاتجاه المعاكس والمخطط له منذ 1958 : التقارب مع دول المغرب ذات الميول الغريبة والتى تتناسب مع النظام الليبى اكثر من الناصرية.
بعد ذلك بعام وبمناسبة زيارة رئيس وزراء ليبيا لتونس اطرى الرئيس الحبيب بورقيبة بشدة على فكرة اقامة "المغرب الكبير" من السلوم إلى الدار البيضاء. وبعد ذلك بمدة قصيرة وقعت تونس وليبيا معاهدة حسن جوار فرد عبد الناصر بعنف واتهم الدولتين بأنهما تحاولان تفرقة العرب والمقصود من ذلك الهجوم كان بورقيبة لأن العلاقات بين تونس ومصر فى ذلك الوقت كانت تمر بمرحلة توتر كبيرة ولكن النظام الليبى هو الآخر تحفظ كثيرا بسبب التناقضات الاساسية بين الاشتراكية الدستورية والنظام الاقطاعى عند الملك إدريس والمشاكل الاقليمية "مشكلة الحدود بين البلدين والتى حددت بموجب الاتفاقية التركية – الفرنسية عام 1910 وأعيد تأكيدها بموجب الاتفاقيات الفرنسية – الايطالية وقد طالب الرئيس بورقيبة مرارا ببعض حقول النفط المكتشفة فى الصحراء مدعيا أنها تقع ضمن الحدود التى كانت ملك تونس". ومشكلة الليبين المقيمين فى تونس والذين طلب اليهم فى عام 1956 العودة إلى بلادهم.
لكن التقارب الذى دعا له بحماسة الرئيس بورقيبة – وهو محض اقتصادى – لم يبدأ مفعوله سوى فى عام 1963.
فيما يختص بالجزائر كان مفترضا فى العلاقات أن تكون متينة.
وهذا ما كان بالفعل ففى عام 1955 اعلنت الحكومة الليبية تأييدها ودعمها للوطنيين الجزائريين ثم اعترفت ليبيا "بجبهة التحرير الجزائرية" يوم أعلن تشكيلها فى تونس فى 19 سبتمبر 1958 . لكن استلام بن بللا السلطة مكان بن خده لم يلق قبولا أو استحسانا فى ليبيا.
ومرة أخرى يجد الملك إدريس نفسه فى تناقض مع إرادة الشعب الليبى الذى من جهته ايد الزعيم الجزائرى الجديد.
أثر ذلك الموقف على علاقات البلدين وازدادت هذه العلاقات سوءاً فيما بعد بسبب المنافسة البترولية وذلك أن ليبيا كانت تنتج فى عام 1964 ، 41 مليون طن مقابل 25 مليونا كانت تنتجها الجزائر لكن موقف كل منهما تجاه الشركات الاجنبية اظهر تناقضا كبيرا فالشركات النفطية الاجنبية العامة فى ليبيا وهى بأغلبيتها امريكية كانت تتمتع بشروط مالية افضل مما فى الجزائر وقد حاول الجزائريون جاهدين لاقناع جيرانهم باتباع ساسية نفطية اكثر "وطنية" لكن الحكومة الليبية قاومت الضغوط واستطاعت – مكافأة على موقفها- فى عام 1965 الحصول على اتفاقية بإمداد ايطاليا بالغاز الطبيعى بسعر أدنى من السعر الجزائرى.
ومن جهة أخرى كانت العلاقات مع المغرب متوترة بسبب اقدام الملك إدريس على اقامة اتصالات مع السلطان بن عرفة فى العام 1953.
ولم تعد العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلا فى عام 1958 بعد ثلاث سنوات من عودة الملك محمد الخامس إلى بلاده وبعد ذلك بفترة اى فى مطلع الستينيات بدأ ارساء قواعد تعاون اقتصادى مع دخول بعض الشركات المغربية فى مشاريع بناء مساكن شعبية فى ليبيا.
وفى ربيع 1965 وقعت بلدان شمال افريقيا الاربعة اتفاقية تعاون مع سياسة الاستيراد والمواصلات وصناع الفولاذ وتصريف المنتجات الزراعية كذلك قضية توحيد شركات الطيران وضعت خطتها بتأسيس شركة سميث "طيران المغرب".
ذلك كان اختيار الحكومة الليبية فى سياستها العربية وكان من الواضح جداً ذلك التفاوت الكبير بين فتور وتخاذل النظام واندفاع وحماس الجماهير التى سوف تؤثر كثيرا فى ترجيح كفة الميزان. إن وقوف اى نظام بوجه تطلعات وآمال شعبه لا يبقى دون عواقب عكسية: وهذا مبدأ يتجاهله الحكام فى اغلب الأحيان.
ولم يكن خافيا أن العرش السنوسى كان منشغلا فى مشاكل داخلية وقضايا تتعلق بالسلالة وفى مواجهة مع معارضة تزداد قوة وحركة.
ومن اجل توضيح الامور وفهم المشاكل يجدر التذكير بظروف زرع اخوية مسلمة فى ليبيا حوالى العام 1840 سميت "بالسنوسية" (على اسم مؤسسها سيدى محمد السنوسى) والتى لعبت دورا مهما فى تقرير مصائر البلاد.
إن هذا الرجل الهام والكبير ولد عام 1787 فى عائلة شريفة هى سلسلة "أدريس" مؤسس الاسرة الادريسية فى منطقة فاس وتنحدر مباشرة من سلالة النبى صلى الله عليه وسلم وبعد أن ترك المغرب حوالى سنة 1817 من اجل آداء فريضة الحج فى مكة المكرمة مر بطرابلس ثم توقف عند الجامع الازهر فى القاهرة لمتابعة التحصيل ثم استقر فى الحجاز حيث أجرى اتصالات مع الطائفة المحمدية – وهى طائفة اساسها أحد أنسبائه- واعتنق معها مبادئها الصوفية والاخوية الجديدة التى تحدد انتماءها إلى الصوفية تأخذ مقرا لها فى مكان على تلة تشرف على مكة المكرمة لكنها لم تلبث أن تتسبب فى عداوة السلطات لها حين بدأت تمارس نشاطا سياسيا واقتصاديا له علاقة ببدو الحجاز.
وهروبا من الاضطهاد قرر محمد السنوسى الانتقال من المنطقة والاستقرار فى برقة حيث تولد تحت رعايته "زاوية" البيضاء ولم يلبث بعد ذلك أن امتلأ الجبل الاخضر بالزوايا الفرعية لكن مرة أخرى النجاح يجلب الاضطهاد: فيضطر الشيخ محمد إلى الانتقال صوب الجنوب فى البدء حيث تصبح المقر الرئيسى للسنوسية والمسكن الدائم للعائلة.
ثم ينتقل جنوبا إلى الكفرة وتيبستى حيث يضطر السنوسيون إلى مقاومة الفرنسيون والايطاليين ومقابل ذلك لم تتوان بريطانيا لحظة فى دعم السنوسيين إذا كانت تعرف أنها بتأييدها لهم وتقويتهم سوف يصبح حظها فى السيطرة على البلاد كبيرا.
وبالفعل وبعد اعلان استقلال ليبيا وبسبب الانقسامات المحلية الكبيرة اعتمدت الدولة الجديدة على الملكية. وهذه ا؟لأخيرة لا تتحقق إلا بواسطة العائلة السنوسية التى تتمتع بنفوذ دينى لا يقبل المنازعة.
ويقع الاختيار على السنوسيين لاستلام العرش لكن مشاكل الوحدة الوطنية بقيت فإذا كان سكان طرابلس وهم اكثر عددا يخشون سلطة مباشرة من السنوسيين ويفضلون سلطة مركزية فإن سكان برقة كانوا يخشون المركزية لتفادى الوقوع تحت سيطرة طرابلس الغرب.
فى حين أن فزان وبالرغم من علاقاتها الجيدة مع برقة ونطاق العزلة الذى ضربته حول نفسها كانت تتمنى المحافظة علىاستقلالها الذاتى.
وسوف يحاول بعد ذلك الملك ادريس جاهدا ضم طرابلس إلى الاقليمين الآخرين بأن يطرد منها جميع العناصر الوطنية المؤيدة لسياسة مصر العربية والمعارضة للاتفاقيات مع بريطانيا والولايات المتحدة.
ومرة أخرى يلجأ إلى اساليب وحلول تجرى عكس تيار التاريخ وهكذا حلول مصيرها الفشل ومع زيادة الانشقاق بين طرابلس "التقدمية" وبرقة التى يحاول جاهدا "نفخ" روح الرجعية فيها يفتح الملك الطريق أمام الانقسامات والمؤمرات من مختلف الانواع ودسائس البلاط التى تنتهى بفصول لا تليق الا بجمهورية البندقية.
وفى الوقت نفسه تبدأ الحياة السياسية فى البلاد تتفكك فى تطور سريع ومتتابع بعد اكتشاف النفط والنتائج التى اثارها فى هيكلية المجتمع الليبى كظاهرة التمدن..
ويحاول الملك وقف هذا التدهور بحصر جميع السلطات : فيلغى الاتحاد ويستبدله فى 25 ابريل 1963 بنظام "الوحدات الادارية العشر" وعلى راس كل منها موظف يعين بمرسوم ملكى . لكن هذا الاجراء كان هزيلا جداً فنشطت حركات المقاومة السرية وتضاعفت بين 1964 و 1968 الاضطرابات والمظاهرات وتحولت إلى اصطدامات وعمليات قمع دموية فى معظم الأحيان وكانت الحرب العربية الاسرائيلية عام 1967 وثبة الوعى الجديدة . فبعد أن رفض الملك تشكيل فرقة متطوعين ليبيين ، جرد – أيضاً – مجموعة من الضباط الليبيين من رتبهم لانهم كانوا قد ذهبوا سرا إلى سيناء وحين اراد رئيس وزرائه ابقاء الحظر الكامل على النفط بعد نهاية الحرب إقاله من منصبه.
ولما رفض النقابيون اعادة "تشغيل" محطات الضخ النهائية لشركة ب . ب. البريطانية و"الكالتكس" كانت نهايتهم السجن أو النفى وتوالت المظاهرات الشعبية وتعاظمت وكذلك القمع الوحشى الذى هو صورة مطابقة للأنظمة المحكوم عليها بالزوال.
وسقط هذا النظام فى الفاتح من سبتمبر 1969 فى يوم حقق فيه ملازم شاب فى السابعة والعشرين من عمره حلما بدأ فى مدرسة فزانية تحيطها الرمال .. حلما تابعه ، خطوة خطوة طوال مسيرة ساقته من فزان إلى مصراته ومن مصراته إلى بنغازى إلى طرابلس مرورا بالفيافى التى تتناثر عليها غابات سرت الكبرى حيث لا تزال تعيش عائلته ، وحيث يأتى غالباً رئيس الدولة الليبية الشاب بغية لقاء منبع وحية وايمانه العميق.