قد استقر في ضمير المؤمنين أن ما ثبتت فرضيته أو حرمته ليس محلاً للرأي، ولا مجالاً للاجتهاد الذي أباحه الله للعباد، واستقر كذلك في ضميرهم أن من يعبث بشيء من الأحكام القطعية، ويتخذ ذلك العبث باسم "الرأي وحريته" قنطرة يعبر عليها إلى فتنة الناس في دينهم، أو زعزعة إيمانهم، أو الحصول على شهرة زائفة مفتعلة، أو متاع زائل حقير كان هو ومن يتبعه ويصدقه ومن يقويه وينفخ فيه، كان "ثلاثتهم" في الخروج عن دين الله سواءً، وكان جديرًا بالمؤمنين الصادقين أن ينبذوهم نبذ النواة، وأن يسموهم على الخرطوم بحروف بارزة "ضالون مضلون" (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ).
إن لكل دين إلهي أو نظام بشري دائرة مقدسة وشقة محرمة لا يسمح الدين ولا أهل النظام أن تمس، وإذا مست عن قرب أو بعد كان مسها اعتداءً صارخًا عليها، وتقويضًا لقداستها وانتهاكًا لحرمتها، ولا يبرره أنه رأى، وحرية الرأي مكفولة، فإن للرأي في الشرائع -سماوية أو وضعية- مجاله، وللدائرة المقدسة مجالها، وعلى هذا طبعت النفوس في معتقداتها ونظمها ودساتيرها.
ومن جهة أخرى فقد بنى الإسلام تشريعه كله على اليسر والرحمة، ولم يقصد بتكاليفه -بوجه عام- عنتًا ولا إرهاقًا )لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا(. (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، ومن ذلك: رخص لمن أكره على الكفر أن ينطق بكلمته وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخص لمن أشرف على الهلاك أو خاف الضرر بجوع أو عطش أن يأكل أو يشرب مما حرَّمه الله بقدر ما يحفظ عليه حياته، أو يدفع عنه ضرره، حتى إذا ما تزمَّت في التدين، وامتنع باسمه عن الأكل أو الشرب حتى مات، أو أصيب بزمانة كان آثمًا عند الله مسرفًا في تدينه، (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
وكذلك أباح لمن يتضرر أو يخاف الضرر باستعمال الماء في طهارة الصلاة أن يتيمم صعيدًا طيبًا. وأباح الصلاة في مواطن الخوف والمشقة، مخففة في عدد ركعاتها، وكيفية أدائها، حتى لقد تقبلها رمزًا بحركة رأسية أو عينية. وأباح ترك الحج عند خوف الطريق، وجعل أمنه والقدرة على نفقة الذهاب والإياب زائدة عن نفقة الأسرة من الاستطاعة التي لا يجب الحج إلا بها.
وعلى هذه السنة الرحيمة العامة في التكاليف كلها فرض الله صوم رمضان، وجعل الناس بالنسبة إليه واحدًا من ثلاثة: 1 - مقيم سليم قادر عليه دون ضرر يلحقه أو مشقة ترهقه، والصوم واجب محتم عليه. وهذا هو الأصل الذي نظر فيه إلى السلامة من العوارض، وهو المذكور بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ( وقوله (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
2 - مريض أو مسافر، وقد أبيح له الإفطار مع وجوب القضاء يوم بيوم عند الصحة أو الإقامة، وهو لمذكور بقوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر)
3 - من يشق عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله، ومنه ضعف الشيخوخة، والمرض المزمن، والحمل والإرضاع المتواليات إذا خيف على الحامل أو المرضع أو الرضيع، وقد أبيح لهؤلاء وأمثالهم الإفطار دون قضاء، واكتفى منهم أن يطعموا بدلاً عن كل يوم مسكينًا واحدًا بما يشبعه في وجبتين من طعام متوسط، ويقوم مقام الإطعام بدل ثمنه على حسب التقدير المتعارف بين الناس، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، وإنما يقال: يطيق حمل هذه الصخرة. وإذن فهي تدل على العسر ومشقة الاحتمال.
وإذن.. فحيث كان اليسر كان الصوم، وحيث كان العسر كان الإفطار، هذا هو شرع الله ودينه. وتقدير اليسر والعسر يرجع المؤمن فيه إلى إيمانه وما يحسه من نفسه، ومفتيه في ذلك ضميره، ولا حاجة -بعد معرفة المبدأ العام- إلى فتوى المفتين التي كثيرًا ما توقع الناس في الحيرة والاضطراب "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس".
ومما يجب التنبيه عليه هنا أن المراد بخوف الضرر المبيح للإفطار هو تيقنه أو غلبة ظنه، وواضح أن ذلك يستدعي التجربة الشخصية، أو إخبار الطبيب الأمين الذي لا يعرف بالتهاون الديني. أما الخوف الناشئ عن مجرد الوهم أو التخيل فإنه لا وزن له عند الله ولا يبيح به الإفطار